فصل: تفسير الآيات (185- 186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (185- 186):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثراً، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال {شهر رمضان} كما قال الله تعالى، وقال: لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل.
وقرأ الجمهور الناس {شهرُ} بالرفع، ووجه خبر ابتداء أي ذلكم شهر، وقيل: بدل من الصيام، [البقرة: 183] وقيل: على الابتداء وخبره {الذي أنزل فيه القرآن}، وقيل: ابتداء وخبره {فمن شهد}، و{الذي أنزل} نعت له، فمن قال إن {الصيام} في قوله: {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء، ومن قال: إن {الصيام} هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب {شهرَ} بالنصب، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو، وهي على الإغراء، وقيل: نصب ب {تصوموا} [البقرة: 184] وقيل: نصب على الظرف، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.
واختلف في إنزال القرآن فيه: فقال الضحاك: أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه، وقيل: بدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر: أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلاً في الأوامر والنواهي والأسباب، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين».
وترك ابن كثير همزة {القرآن} مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل: إن اشتقاقه على هذه القرآءة من قرن وذلك ضعيف، و{هدى} في موضع نصب على الحال من {القرآن}، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ، والمحكم كله، فالألف واللام في {الهدى} للعهد والمراد الأول، و{الفرقان} المفرق بين الحق والباطل، و{شهد} بمعنى حضر، و{الشهر} نصب على الظرف، والتقدير: من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة {فَلِيَصُمْه} بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيماً في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر، وقال جمهور الأمة: من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيماً، وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه، ونصب {الشهر} على هذا التأويل هوعلى المفعول الصريح ب {شهد}، وقوله تعالى: {أو على سفر} بمنزلة أو مسافراً فلذلك عطف على اسم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر {اليُسُر} و{العسُر} بضم السين، والجمهور: بسكونه، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم: اليسر الفطر في السفر و{العسر} الصوم في السفر، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم «دين الله يسر».
وقوله تعالى: {ولتكملوا العدة} معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر عن عصام وأبو عمرو في بعض ما روي عنه {ولتكمّلوا} بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة إما ب {يريد} فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول قيس كثير بن صخر: [الطويل]
أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا ** وإما بفعل مضمر بعد، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.

وقوله: {ولتكبروا الله} حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في حده، فقال ابن عباس: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره، وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة، وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر، وقال مالك: هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثلاثاً، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنه من يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.
و{هداكم}، قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد، و{لعلكم تشكرون} ترجِّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى.
وقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني} الآية، قال الحسن بن أبي الحسن: سببها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت، وقال عطاء: لما نزلت {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] قال قوم في أي ساعة ندعو؟ فنزلت {وإذا سألك عبادي عني}، وقال مجاهد: بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية، وقال قتادة بل قالوا: كيف ندعو؟ فنزلت {وإذا سألك عبادي}، روي أن المشركين قالوا لما نزل {فإني قريب}: كيف يكون قريباً وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلط سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت: {أجيب دعوة الداعي إذا دعان} أي فإني قريب بالإجابة والقدرة، وقال قوم: المعنى أجيب إن شئت، وقال قوم: إن الله تعالى يجيب كل الدعاء: فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث الموطأ: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث»، الحديث، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع، قال الله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] قال المفسرون: أي في الدعاء.
والوصف بمجاب الدعوة: وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور. وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم، الحديث، فمنعها، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك.
وقوله تعالى: {فليستجيبوا} قال ابو رجاء الخراساني: معناه فليدعوا لي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل، أي طلب الشيء، إلا ما شذ، مثل، استغنى الله، وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي بالطاعة والعمل، ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وداع يا من يجيب إلى النّدا ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه، وقوله تعالى: {وليؤمنوا بي}، قال أبو رجاء: في أني أجيب دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته. وقرأ الجمهور {يَرشُدون} بفتح الياء وضم الشين. وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين. وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القرءة والتي قبلها.

.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
لفظة {أحل} تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك، و{ليلة} نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]
همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا ** وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ

و{الرفث} كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقرأ ابن مسعود الرفوث، و{الرفث} في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

وقال أبو إسحاق: الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه».
وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، على الخلاف، منهم عمر بن الخطاب، جاء إلى امرأته فأرادها، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً: وقال السدي: جرى له هذا في جارية له، قالوا: فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه، وروي أن صرمة بن قيس، ويقال صرمة بن مالك، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: {وكلوا واشربوا}، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك، كما قال النابغة الجعدي: [المتقارب]
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ** تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وقال النابغة أيضاً: [المتقارب]
لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ** وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا

فشبه خلطته لهم باللباس، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره، وقال مجاهد والسدي: {لباس}: سكن، أي يسكن بعضهم إلى بعض، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها، و{فتاب عليكم} معناه من المعصية التي واقعتموها، و{عفا عنكم} يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً، وتأنيساً بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف، بمعنى تركه لكم، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك.
قال ابن عباس وغيره: {باشروهن} كناية عن الجماع، مأخوذ من البشرة، وقد ذكرنا لفظة {الآن} في ماضي قصة البقرة. {وابتغوا ما كتب الله لكم}.
قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه ابتغوا الولد.
وروي أيضاً عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر، وقيل: المعنى ابتغوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة، وهو قول حسن، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة {واتبعوا} من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح {ابتغوا} من الابتغاء.
{وكلوا واشربوا حتى يتبين} نزلت بسبب صرمة بن قيس، و{حتى} غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطولع الفجر قدر، و{الخيط} استعارة وتشبيه لرقة البياض أولاً ورقة السواد الحاف به، ومن ذلك قول أبي داود:
فَلَمَّا بَصُرْنَ بِهِ غدْوَةً ** وَلاَحَ مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ أَنَارا

ويروى فنارا، وقال بعض المفسرين: {الخيط} اللون، وهذ لا يطرد لغة، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور، و{من} الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، و{الفجر} مأخوذ من تفجر الماء، لأنه يتفجر شيئاً بعد شيء، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله: {من الفجر} فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى: {من الفجر}، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام.
قال القاضي أبو محمد: من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «إن وسادك لعريض»، وروي أنه قال له: «إنك لعريض القفا» ولهذه الألفاظ تأويلان، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك. فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح: ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأُوفق يجب الإمساك، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال، وذكر عن حذيفة أنه قال: تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار، إلا أنّ الشمس لم تطلع، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
قال الطبري: ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها.
وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114]،
قال القاضي أبو محمد: والقول في نفسه صحيح، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار} [البقرة: 164، آل عمران: 190، الجاثية: 5]، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء.
وقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} أمر يقتضي الوجوب، و{إلى} غاية، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد {إلى}، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله: {إلى الليل} يقتضي النهي عن الوصال، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله: {كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة.
في ثمانية أبي زيد: عليه القضاء فقط قياساً على الشك في الفجر، وهو قول جماعة من العلماء.
وقال إسحاق والحسن: لا قضاء عليه كالناسي.
وقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، قالت فرقة: المعنى لا تجامعوهن.
وقال الجمهور: ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء، و{عاكفون} ملازمون، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلاً عليه، قال الراجز: [الرجز]
عكف النبيط يلعبونَ الفَنْزَجا

وقال الشاعر: [الطويل]
وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْليَ عُكَّفاً ** عَكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ

وقال أبو عمرو وأبو حاتم، قرأ قتادة عكفون بغير ألف، والاعتكاف سنة، وقرأ الأعمش في المسجد بالإفراد، وقال: وهو المسجد الحرام.
قال مالك رحمه الله وجماعة معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، وروي عن مالك أيضاً أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله.
وقال قوم: لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك.
وقالت فرقة لا اعتكاف إلى في مسجد نبي.
وقال مالك: لا يعتكف أقل من يوم وليلة، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر.
وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء.
وقالت طائفة: أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر.
وقال مالك: لا اعتكاف بصوم.
وقال غيره: يعتكف بغير صوم، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد.
و{تلك} إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي، والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه الحاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق، و{لعلهم} ترّجٍ في حقهم، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.